الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)} {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} من الواجبات والمندوبات ومن جملتها العدل والتقوى {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} جملة مستأنفة مبينة لثاني مفعولي {وَعْدُ} المحذوف كأنه قيل: أي شيء وعده؟ فقيل: لهم مغفرة الخ. ويحتمل أن يكون المفعول متروكاً والمعنى قدم لهم وعداً وهو ما بين بالجملة المذكورة، وجوز أن تكون مفعول وعد باعتبار كونه بمعنى قال، أو المراد حكايته لأنه يحكي بما هو في معنى القول عند الكوفيين، ويحتمل أن يكون القول مقدراً أي وعدهم قائلاً ذلك لهم أي في حقهم فيكون إخباراً بثبوته لهم وهو أبلغ، وقيل: إن هذا القول يقال لهم عند الموت تيسيراً لهم وتهويناً لسكرات الموت عليهم..
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)} {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} القرآنية التي من جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالأمر بالعدل والتقوى، وحمل بعضهم الآيات على المعجزات التي أيد الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم {أولئك} الموصوفون بما ذكر {أصحاب الجحيم} أي ملابسوا النار الشديدة التأجج ملابسة مؤبدة، والموصول مبتدأ أول، واسم الإشارة مبتدأ ثان وما بعده خبره، والجملة خبر الأول، ولم يؤت بالجملة في سياق الوعيد كما أتى بالجملة قبلها في سياق الوعد قطعاً لرجائهم، وفي ذكر حال الكفرة بعد حال المؤمنين كما هو السنة السنية القرآنية وفاءاً بحق الدعوة، وتطييباً لقلوب المؤمنين بجعل أصحاب النار أعداءهم دونهم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)} {تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} تذكير لنعمة الإنجاء من الشر إثر تذكير نعمة إيصال الخير الذي هو نعمة الإسلام وما يتبعها من الميثاق، أو تذكير نعمة خاصة بعد تذكير النعمة العامة اعتناءاً بشأنها، و{عَلَيْكُمْ} متعلق بنعمة الله أو بمحذوف وقع حالاً منها، وقوله تعالى: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} على الأول: ظرف لنفس النعمة، وعلى الثاني: لما تعلق به الظرف، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لاذكروا لتنافي زمنيهما فإن {إِذْ} للمضي، و{اذكروا} للمستقبل، أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم وقت قصد قوم {أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك، يقال: بسط إليه يده إذا بطش به، وبسط إليه لسانه إذا شتمه، والبسط في الأصل مطلق المد، وإذا استعمل في اليد واللسان كان كناية عما ذكر، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان رجوع ضرر البسط وغائلته إليهم حملاً لهم من أول الأمر على الاعتداد بنعمة دفعه. {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} عطف على {هُمْ} وهو النعمة التي أريد تذكيرها، وذكر الهم للإيذان بوقوعها عند مزيد الحاجة إليها، والفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها، وإظهار الأيدي لزيادة التقرير وتقديم المفعول الصريح على الأصل أي منع أيديهم أن تمد إليكم عقيب همهم بذلك وعصمكم منهم، وليس المراد أنه سبحانه كفها عنكم بعد أن مدوها إليكم، وفي ذلك ما لا يخفى من إكمال النعمة ومزيد اللطف. والآية إشارة إلى ما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر أن المشركين رأوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بعسفان قاموا إلى الظهر معاً فلما صلوا ندموا ألا كانوا أكبوا عليهم، وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة العصر، فردّ الله تعالى كيدهم بأن أنزل صلاة الخوف، وقيل: إشارة إلى ما أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عمرو بن أمية الضمري حيث انصرف من بئر معونة لقي رجلين كلابيين معهما أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلهما ولم يعلم أن معهما أماناً فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضى إلى بني النضير ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وعمر وعلي فتلقوه فقالوا: مرحباً يا أبا القاسم لماذا جئت؟ قال: رجل من أصحابي قتل رجلين من كلاب معهما أمان مني طلب مني ديتهما فأريد أن تعينوني قالوا: نعم اقعد حتى نجمع لك فقعد تحت الحصن وأبو بكر وعمر وعلي، وقد تآمر بنو النضير أن يطرحوا عليه عليه الصلاة والسلام حجراً فجاء جبريل عليه السلام فأخبره فقام ومن معه». وقيل: إشارة إلى ما أخرجه غير واحد من حديث جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها فعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسله، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله تعالى قالها الأعرابي مرتين، أو ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم في كل ذلك يقول: الله تعالى، فشام الأعرابي السيف فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه»، ولا يخفى أن سبب النزول يجوز تعدده، وأن القوم قد يطلق على الواحد كالناس في قوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] وأن ضرر الرئيس ونفعه يعودان إلى المرؤوس. {واتقوا الله} عطف على {اذكروا} أي اتقوه في رعاية حقوق نعمته ولا تخلوا بشكرها، أي في الأعم من ذلك ويدخل هو دخولاً أولياً. {وَعَلَى الله} خاصة دون غيره استقلالاً أو اشتراكاً {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} فإنه سبحانه كاف في درء المفاسد وجلب المصالح، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وإيثار صيغة أمر الغائب وإسنادها للمؤمنين لإيجاب التوكل على المخاطبين بطريق برهاني ولإظهار ما يدعو إلى الامتثال، ويزع عن الإخلال مع رعاية الفاصلة، وإظهار الاسم الجليل لتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة التذييلية وقد مرت نظائره وهذه الآية كما نقل عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه تقرأ سبعاً صباحاً وسبعاً مساءاً لدفع الطاعون.
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)} {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل} كلام مستأنف مشتمل على بيان بعض ما صدر من بني إسرائيل مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق، وتحذيرهم من نقضه، أو لتقرير ما ذكر من الهم بالبطش، وتحقيقه بناءاً على أنه كان صادراً من أسلافهم ببيان أن الغدر والخيانة فيهم شنشنة أخزمية، وإظهار الاسم الجليل هنا لتربية المهابة وتفخيم الميثاق وتهويل الخطب في نقضه مع ما فيه من رعاية حق الاستئناف المستدعي للانقطاع عما قبله، والالتفات في قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً} للجري على سنن الكبرياء، وتقديم المفعول الغير الصريح على الصريح لما مر غير مرة من الاهتمام والتشويق، والنقيب قيل: فعيل بمعنى فاعل مشتقاً من النقب بمعنى التفتيش، ومنه {فَنَقَّبُواْ فِى البلاد} [ق: 36] وسمي بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأسرارهم، وقيل: بمعنى مفعول كأن القوم اختاروه على علم منهم، وتفتيش على أحوالهم. قال الزجاج: وأصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق في الجبل، ويقال: فلان حسن النقيبة أي جميل الخليقة، ونقاب: للعالم بالأشياء الذكي القلب الكثير البحث عن الأمور، وهذا الباب كله معناه التأثير في الشيء الذي له عمق، ومن ذلك نقبت الحائط أي بلغت في النقب آخره. روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من أمر فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحاء أرض الشام وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون، وقال سبحانه لهم: إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها فإني ناصركم، وأمر جل شأنه موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط كفيلاً عليهم بالوفاء فيما أمروا به فأخذ عليهم الميثاق، واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار ونهاهم أن يحدثوا قومهم فرأوا أجراماً عظاماً وبأساً شديداً فهابوا، فرجعوا وحدثوا قومهم إلا كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفرائيم بن يوسف عليه السلام، وعند ذلك قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24]. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن النقباء لما دخلوا على الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمس أنفس بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمس أنفس أو أربع، وذكر البغوي أنه لقيهم رجل من أولئك يقال له عوج بن عنق، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله، ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج، وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله تعالى على يد موسى عليه السلام، وذلك أنه جاء وقور صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام وكان فرسخاً في فرسخ وحملها ليطبقها عليهم فبعث الله تعالى الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله. وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم عليه السلام، وكان مجلسها جريباً من الأرض، فلما لقوا عوجاً وعلى رأسه حزمة حطب أخذهم جميعاً وجعلهم في حزمته، وانطلق بهم إلى امرأته وقال: انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها، وقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل انتهى. وأقول: قد شاع أمر عوج عند العامة ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفي «فتاوى العلامة ابن حجر» قال الحافظ العماد بن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام ولم يسلم من الكفار أحد، وقال ابن القيم: من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعاً أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه كحديث عوج الطويل وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره ولا يبين أمره، ثم قال: ولا ريب في أن هذا وأمثاله من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم انتهى. وأورد ابن المنذر عن ابن عمر من قصته شيئاً عجيباً، وتعقبه بعض المصنفين بأن هذا مما يستحي الشخص من نسبته إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ومشى صاحب «القاموس» على أن أخباره موضوعة، وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن حبان في كتاب «العظمة» فيه آثاراً قال الحفاظ في أطولها المشتمل على غرائب من أحواله: إنه باطل كذب، وقال الحافظ السيوطي: والأقرب في خبر عوج أنه من بقية عاد، وأنه كان له طول في الجملة مائة ذراع أو شبه ذلك، وأن موسى عليه الصلاة والسلام قتله بعصاه، وهذا هو القدر الذي يحتمل قبوله انتهى، ونعم ما قال، فإن بقاءه في الطوفان مع كفره الظاهر إذ لم ينقل إيمانه، ودعوة نوح عليه السلام التي عمت الأرض مما لا يكاد يقبله المنصف، وكذا بقاؤه بعد الطوفان مع قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين} [الصافات: 77] مما لا يسوغه العارف، وشيه الحوت بعين الشمس، مما لا يكاد يعقل على ما ذكره الحكماء فقد ذكر الخلخالي أنهم ذهبوا إلى أن الشمس ليست حارة وإلا لكان قلل الجبال أحر من الوهاد لقرب القلل إلى الشمس وبعد الوهاد عنها بل الحرارة تحدث من وصول شعاع الشمس إلى وجه الأرض وانعكاسه عنه ولذلك يرى الوهاد أحر لتراكم الأشعة المنعكسة فيها فما وصل إليه الشعاع من وجه الأرض يصير حاراً وإلا فلا، وذكر نحو ذلك شارح «حكمة العين»، ولا يرد على هذا أن بعض الناس روى أن كذا ملائكة ترمي الشمس بالثلج إذا طلعت، ولولا ذلك لأحرقت أهل الأرض لأن ذلك مما لم يثبت عند الحفاظ، وهو إلى الوضع أقرب منه إلى الصحة، ثم كان القائل بوجود عوج هذا من الناس لا يقول بالطبقة الزمهرية التي هي الطبقة الثالثة من طبقات العناصر السبع، ولا بما فوقها وإلا فكيف يكون الاحتجاز بالسحاب وهو كالرعد والبرق، والصاعقة إنما ينشأ من تلك الطبقة الباردة التي لا يصل إليها أثر شعاع الشمس بالانعكاس من وجه الأرض، وقد ذكروا أيضاً أن فوقها طبقتين: الأولى: ما يمتزج مع النار وهي التي يتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة عن السفل، ويتكون فيها الكواكب ذوات الأذناب والنيازك، والثانية: ما يقرب من الخلوص إذ لا يصل إليه حرارة ما فوقه ولا برودة ما تحته من الأرض والماء، وهي التي يحدث فيها الشهب، فإذا احتجز هذا الرجل بالسحاب وصل رأسه على زعمهم إلى إحدى تينك الطبقتين، فكيف يكون حاله مع ذلك البرد والحر؟ا ولا أظن بشراً كيف كان يقوى على ذلك، على أن أصل الاحتجاز مما لا يمكن بناءاً على كلام الحكماء إذ قد علمت أن منشأ السحب الطبقة الزمهريرية. وفي كتاب «نزهة القلوب» نقلاً عن الحكيم أبي نصر أن غاية ارتفاعها اثني عشر فرسخاً وستمائة ذراع، وعن المتقدمين أنها ثمانية عشر فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع انتهى. واختلفوا أيضاً في غاية انحطاطها، ولم يذكر أحد منهم أنها تنحط إلى ما يتصور معه احتجاز الرجل الذي ذكروا من طوله ما ذكروا بالسحاب، اللهم إلا أن يراد به سحاب لم يبلغ هذا الارتفاع ومع هذا كله قد أخطأوا في قولهم: ابن عنق، وإنما هو ابن عوق كنوح كما نص على ذلك في «القاموس»، وهو أيضاً اسم والده لا والدته كما ذكر هناك أيضاً فليحفظ. وأخرج ابن حميد وابن جرير عن أبي العالية أنه قال في الآية: أخذ الله تعالى ميثاق بني إسرائيل أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره؛ وبعث منهم اثني عشر كفيلاً كفلوا عليهم بالوفاء لله تعالى بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به ونهاهم عنه، واختاره الجبائي، والنقباء حينئذٍ يجوز أن يكونوا رسلاً، وأن يكونوا قادة كما قال البلخي واختار أبو مسلم أنهم بعثوا أنبياء ليقيموا الدين ويعلموا الأسباط التوراة ويأمروهم بما فرضه الله تعالى عليهم، وأخرج الطيبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا وزراء وصاروا أنبياء بعد ذلك. {وَقَالَ الله} أي للنقباء عند الربيع، ورجحه السمين للقرب، وعند أكثر المفسرين لبني إسرائيل ورجحه أبو حيان إذ هم المحتاجون إلى ما ذكر من الترغيب والترهيب كما ينبىء عنه الإلتفات مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد {إِنّى مَعَكُمْ} أسمع كلامكم وأرى أعمالكم وأعلم ضمائركم فأجازيكم بذلك، وقيل: معكم بالنصرة، وقيل: بالعلم، والتعميم أولى. {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءاتَيْتُمْ الزكواة وَءامَنتُمْ بِرُسُلِى} أي بجميعهم، واللام موطئة للقسم المحذوف، وتأخير الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع كونهما من الفروع المترتبة عليه لما أنهم كما قال غير واحد كانوا معترفين بوجوبهما حسبما يراد منهم مع ارتكابهم تكذيب بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولمراعاة المقارنة بينه وبين قوله تعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ}، وقال بعضهم: إن جملة {وَلَقَدْ أَخَذَ} إلى آخره كناية إيمائية عن المجاهدة، ونصرة دين الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام والإنفاق في سبيله كأنه قيل: لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وجاهدتم في سبيل الله يدل عليه قوله تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم فَتَنْقَلِبُوا خاسرين} [المائدة: 21] فإن المعنى لا ترتدوا على أدباركم في دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم عليه الصلاة والسلام، وإنما وقع الاهتمام بشأن هذه القرينة دون الأولين، وأبرزت في معرض الكناية لأن القوم كانوا يتقاعدون عن القتال ويقولون لموسى عليه السلام إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون انتهى، ولا يخلو عن نظر. وقيل: إنما قدم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنها الظاهر من أحوالهم الدالة على إيمانهم، والتعزير أصل معناه المنع والذب، وقيل: التقوية من العزر، وهو والأزر من واد واحد، ولا يخفى أن في التقوية منعاً لمن قويته عن غيره فهما متقاربان، ثم تجوز فيه عن النصرة لما فيها من ذلك وعن التأديب، وهو في الشرع ما كان دون الحدّ لأنه رادع ومانع عن ارتكاب القبيح، ولذا سمي في الحديث نصرة، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أفرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره "، وقال الراغب: «التعزير النصرة مع التعظيم»، وبالنصرة فقط فسره الحسن. ومجاهد، وبالتعظيم فقط فسره ابن زيد. وأبو عبيدة، وقرىء عزرتموهم بالتخفيف. {وَأَقْرَضْتُمُ الله} أي بالإنفاق في سبيل الخير، وقيل: بالتصدق بالصدقات المندوبة وأياً مّا كان فهو استعارة لأنه سبحانه لما وعد بجزائه والثواب عليه شبه بالقرض الذي يقضى بمثله، وفي كلام العرب قديماً الصالحات قروض {قَرْضًا حَسَنًا} وهو ما كان عن طيب نفس على ما قال الأخفش، وقيل: ما لا يتبعه منّ ولا أذى، وقيل: ما كان من حلال. وذكر غير واحد أن قرضاً يحتمل المصدر والمفعول به. {لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سيئاتكم} دال على جواب الشرط المحذوف وسادّ مسدّه معنى، وليس هو الجواب له خلافاً لأبي البقاء بل هو جواب للقسم، فقد تقرر أنه إذا اجتمع شرط وقسم أجيب السابق منهما إلا أن يتقدمه ذو خبر، وجوز أن يكون هذا جواباً لما تضمنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل} من القسم، وقيل: إن جوابه {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} فلا تكون اللام موطئة، أو تكون ذات وجهين وهو غريب وجملة القسم المشروط وجوابه مفسرة لذلك الميثاق المتقدم. {وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار} عطف على ما قبله داخل معه في حكمه متأخر عنه في الحصول ضرورة تقدم التخلية على التحلية. {فَمَن كَفَرَ} أي برسلي أو بشيء مما عدد في حيز الشرط، والفاء لترتيب بيان حكم من كفر على بيان حكم من آمن تقوية للترغيب بالترهيب {بَعْدَ ذَلِكَ} الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم أعني لأكفرن، وقيل: بعد الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم أعني أني معكم بناءاً على حمل المعية على المعية بالنصرة والإعانة، أو التوفيق للخير فإن الشرط معلق به من حيث المعنى نحو أنا معتن بشأنك إن خدمتني رفعت محلك، وقيل: المراد بعد ما شرطت هذا الشرط ووعدت هذا الوعد وأنعمت هذا الإنعام، وقوله تعالى: {مّنكُمْ} متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل كفر، ولعل تغيير السبك حيث لم يقل وإن كفرتم عطفاً على الشرطية السابقة كما قال شيخ الإسلام لإخراج كفر الكل عن حيز الاحتمال وإسقاط من كفر عن رتبة الخطاب، ثم ليس المراد بالكفر إحداثه بعد الإيمان، بل ما يعم الاستمرار عليه أيضاً كأنه قيل: فمن اتصف بالكفر بعد ذلك إلا أنه قصد بإيراد ما يدل على الحدوث بيان ترقيهم في مراتب الكفر فإن الاتصاف بشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه، وإن كان استمراراً عليه لكن بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث. {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} أي وسط الطريق وحاقه ضلالاً لا شبهة فيه ولا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك إذ ربما يمكن أن يكون له شبهة ويتوهم عذر.
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)} {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} أي بسبب نقضهم ميثاقهم المؤكد لا بشيء آخر استقلالاً وانضماماً، فالباء سببية، و( ما) مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس، أو بمعنى شيء كما قال أبو البقاء، والجار متعلق بقوله تعالى: {لَّعَنَهُمُ} أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا عقوبة لهم قاله عطاء وجماعة وعن الحسن ومقاتل أن المعنى مسخناهم قردة وخنازير، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عذبناهم بضرب الجزية عليهم، ولا يخفى أن ما قاله عطاء أقرب إلى المعنى الحقيقي لأن حقيقة اللعن في اللغة الطرد والابعاد فاستعماله في المعنيين الأخيرين مجاز باستعماله في لازم معناه، وهو الحقارة بما ذكر لكنه لا قرينة في الكلام عليه، وتخصيص البيان بما ذكر مع أن حقه أن يبين بعد بيان تحقق (نفس) اللعن والنقض بأن يقال مثلاً: فنقضوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هيئة الشيء البسيطة على هيئته المركبة كما قال شيخ الإسلام للإيذان بأن تحققهما أمر جلي غني عن البيان، وإنما المحتاج إلى ذلك ما بينهما من السببية والمسببية. {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ} يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقيل: المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وهذا كما تقول لغيرك: أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدىء، وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها، وقال الجبائي المعنى: بينا عن حال قلوبهم وما هي عليه من القساوة وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنفع فيهم موعظة، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وما دعا إليه إلا الاعتزال، وقرأ حمزة والكسائي (قسية)، وهي إما مبالغة قاسية لكونه على وزن فعيل، أو بمعنى ردية من قولهم: درهم قسى إذا كان مغشوشاً، وهو أيضاً من القسوة، فإن المغشوش فيه يبس وصلابة، وقيل: إن قسى غير عربي بل معرب، وقرىء، قسية بكسر القاف للاتباع. {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم فإنه لا مرتبة أعظم مما ينشأ عنه الاجتراء على تحريف كلام رب العالمين والافتراء عليه عز وجل، والتعبير بالمضارع للحكاية واستحضار الصورة، وللدلالة على التجدد والاستمرار، وجوز أن يكون حالا من مفعول {لعناهم}، أو من المضاف إليه في قلوبهم وضعف بما ضعف، وجعله حالا من القلوب، أو من ضميره في {قَاسِيَةً} كما قيل، لا يصح لعدم العائد منه إلى ذي الحال، وجعل القلوب بمعنى أصحابها مما لا يلتفت إليه أصحابها {وَنَسُواْ حَظَّا} أي وتركوا نصيباً وافياً، واستعمال النسيان بهذا المعنى كثير {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} من التوراة أو مما أمروا به فيها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: حرفوا التوراة فسقطت بشؤم ذلك أشياء منها عن حفظهم، وأخرج ابن المبارك وأحمد في «الزهد» عن ابن مسعود قال: إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها، وفي معنى ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه: شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور *** ونور الله لا يهدى لعاصي {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ} أي خيانة كما قرىء به على أنها مصدر على وزن فاعلة كالكاذبة، واللاغية أو فعلة خائنة أي ذات خيانة، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو فرقة خائنة، أو نفس خائنة، أو شخص خائنة على أنه وصف، والتاء للمبالغة لكنها في فاعل قليلة، و{مِنْهُمْ} متعلق بمحذوف وقع صفة لها، خلا أن من على الوجهين الأولين ابتدائية أي على خيانة، أو فعلة ذات خيانة كائنة منهم صادرة عنهم، وعلى الأوجه الأخر تبعيضية، والمعنى إن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم كما يعلم من وصفهم بالتحريف وما معه بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم {إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} استثناء من الضمير المجرور في {مِنْهُمْ}؛ والمراد بالقليل عبد الله بن سلام وأضرابه الذين نصحوا لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجعله بعضهم استثناء من {خَائِنَةَ} على الوجه الثاني، فالمراد بالقليل الفعل القليل: و{مِنْ} ابتدائية كما مر أي إلا فعلا قليلاً كائناً منهم، وقيل: الاستثناء من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}. {فاعف عَنْهُمْ واصفح} أي إذا تابوا أو بذلوا الجزية كما روي عن الحسن وجعفر بن مبشر واختاره الطبري، فضمير عنهم راجع إلى ما رجع إليه نظائره، وعن أبي مسلم أنه عائد على القليل المستثنى أي فاعف عنهم ما داموا على عهدك ولم يخونوك، وعلى القولين فالآية محكمة، وقيل: الضمير عائد على ما اختاره الطبري، وهي مطلقة إلا أنها نسخت بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} [التوبة: 29] الآية. وروي ذلك عن قتادة، وعن الجبائي أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء} [الأنفال: 58] {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} تعليل للأمر وحث على الامتثال وتنبيه على أن العفو على الإطلاق من باب الإحسان. هذا ومن باب الإشارة في الآيات {الخاسرين يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} أمر بالتطهير لمن أراد الوقوف بين يدي الملك الكبير جل شأنه وعظم سلطانه، وبدأ بالوجه لأنه سبحانه وتعالى نقشه بنقش خاتم صفاته، وفي «الفتوحات» لا خلاف في أن غسل الوجه فرض وحكمة في الباطن المراقبة والحياء من الله تعالى مطلقاً، ثم اختلف الحكم في الظاهر في أن تحديد غسل الوجه في الوضوء في ثلاثة مواضع: منها البياض الذي بين العذار والأذن، والثاني: ما سدل من اللحية، والثالث: تخليل اللحية، فأما البياض المذكور فمن قائل: إنه من الوجه، ومن قائل: إنه ليس من الوجه، وأما ما انسدل من اللحية فمن قائل: بوجوب إمرار الماء عليه، ومن قائل: بأنه لا يجب، وكذلك تخليل اللحية، فمن قائل: بوجوبه، ومن قائل: بأنه لا يجب، وحكم ذلك في الباطن أما غسل الوجه مطلقاً من غير نظر إلى تحديد الأمر في ذلك فإن فيه ما هو فرض، وفيه ما هو ليس بفرض، فأما الفرض فالحياء من الله تعالى أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك، وأما السنة منه فالحياء من الله تعالى أن تنظر إلى عورتك أو عورة امرأتك، وإن كان ذلك قد أبيح لك، ولكن استعمال الحياء فيها أفضل وأولى فما يتعين منه فهو فرض عليك، وما لا يتعين ففعلته فهو سنة واستحباب، فيراقب الإنسان أفعاله ظاهراً وباطناً، ويراقب ربه في باطنه، فإن وجه قلبه هو المعتبر، ووجه الإنسان على الحقيقة ذاته يقال: وجه الشيء أي حقيقته وعينه وذاته، فالحياء خير كله، والحياء من الإيمان ولا يأتي إلا بخير، وأما البياض الذي بين العذار والأذن، وهو الحد الفاصل بين الوجه والأذن فهو الحد بين ما كلف الإنسان من العمل في وجهه والعمل في سماعه، فالعمل في ذلك إدخال الحدّ في المحدود، فالأولى بالإنسان أن يصرف حياءه في سمعه كما صرفه في بصره، فكما أن الحياء غض البصر كما قال تعالى: {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} [النور: 30] كذلك يلزم الحياء من الله تعالى أن لا يسمع ما لا يحل له من غيبة؛ وسوء قول من متكلم بما لا ينبغي فإن ذلك البياض هو بين العذار والأذن وهو محل الشبهة وهو أن يقول: أصغيت إليه لأرد عليه، وهذا معنى العذار فإنه من العذر أي الإنسان يعتذر إذا قيل له: لم أصغيت إلى هذا القول بأذنك؟ فيقول: إني أردت أن أحقق سماع ما قال حتى أنهاه عنه، فكنى عنه بالعذار فمن رأى وجوب ذلك عليه غسله، ومن لم ير وجوب ذلك إن شاء غسل وإن شاء ترك، وأما غسل ما استرسل من اللحية وتخليلها فهي الأمور العوارض، فإن اللحية شيء يعرض في الوجه وليست من أصله، فكل ما يعرض لك في وجه ذلك من المسائل فأنت فيها بحكم ذلك العارض، فإن تعين عليك طهارة ذلك العارض فهو قول من يقول بوجوب غسله، وإن لم يتعين عليك طهارته فطهرته استحباباً أو تركته لكونه ما تعين عليك فهو قول من لم يقل بوجوب الطهارة فيه، وقد بين أن حكم الباطن يخالف الظاهر بأن فيه وجهاً إلى الفريضة، ووجها إلى السنة والاستحباب، فالفرض من ذلك لا بد من إتيانه، وغير الفرض عمله أولى من تركه، وذلك سار في جميع العبادات انتهى. وقال بعض العارفين: هذا خطاب للمؤمنين بالإيمان العلمي إذا قاموا عن نوم الغفلة وقصدوا صلاة الحضور والمناجاة الحقيقية والتوجه إلى الحق أن يطهروا وجوه قواهم بماء العلم النافع الطاهر المطهر من علم الشرائع والأخلاق والمعاملات الذي يتعلق بإزالة الموانع عن لوث صفات النفس، وأول هذا الأيدي في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ} بالقوى والقدر أي طهروا أيضاً قواكم وقدركم عن دنس تناول الشهوات والتصرفات في مواد الرجس {إِلَى المرافق} أي قدر الحقوق والمنافع، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: أجمع الناس على غسل اليدين والذراعين، واختلفوا في إدخال المرافق في هذا الغسل، فمن قائل: بوجوب إدخالهما، ومن قائل: بعدم الوجوب، لكن لم ينازع بالاستحباب، وحكم الباطن في ذلك أن غسل اليدين والذراعين إشارة إلى غسلهما بالكرم والجود والسخاء والهباة والاعتصام والتوكل، فإن هذا وشبهه من نعوت اليدين والمعاصم للمناسبة، بقي غسل المرافق وهي رؤية الأسباب التي يرتفق العبد ويأنس بها لنفسه، فمن رأى إدخال المرافق في نفسه رأى أن الأسباب إنما وضعها الله تعالى حكمة منه في خلقه فلا يرد أن تعطل حكمة الله تعالى لا على طريق الاعتماد عليها فإن ذلك يقدح في اعتماده على الله تعالى، ومن رأى عدم إيجابها في الغسل رأى سكون النفس إلى الأسباب، وأنه لا يخلص له مقام الاعتماد على الله تعالى مع وجود رؤية الأسباب، وكل من يقول: بأنه لا يجب غسلها يقول: يستحب كذلك رؤية الأسباب مستحبة عند الجميع وإن اختلفت أحكامهم فيها، فإن الله تعالى ربط الحكمة في وجودها: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} قال بعض العارفين: أي بجهات أرواحكم عن قتام كدورة القلب وغبار تغيره بالتوج إلى العالم السفلي ومحبة الدنيا بنور الهدى، فإن الروح لا يتكدر بالتعلق بل يحتجب نوره عن القلب فيسود القلب ويظلم ويكفى في انتشار نوره صقل الوجه العالي الذي يتوجه إليه، فإن القلب ذو وجهين: أحدهما: إلى الروح والرأس هنا إشارة إليه، والثاني: إلى النفس وقواها، وأحرى بالرجل أن تكون إشارة إليه. وقال الشيخ الأكبر قدس الله سره بعد أن بين اختلاف العلماء في القدر الذي يجب مسحه: وأما حكم مسح الرأس في الباطن فأصله من الرياسة وهي العلو والارتفاع، ولما كان أعلا ما في البدن في ظاهر العين وجميع البدن تحته سمي رأساً، فإن الرئيس فوق المرؤوس وله جهة فوق، وقد وصف الله تعالى نفسه بالفوقية على عباده بصفة القهر، فقال سبحانه: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] فكان الرأس أقرب عضو في الجسد إلى الحق تعالى لمناسبة الفوقية، ثم له الشرف الآخر في المعنى الذي به رأس على البدن كله، وهو أنه محل جميع القوى كلها الحسية والمعنوية، فلما كانت له هذه الرياسة من هذه الجهة سمي رأساً، ثم إن العقل الذي جعله الله تعالى أشرف ما في الإنسان جعل محله اليافوخ وهو أعلى موضع في الرأس فجعله سبحانه مما يلي جانب الفوقية، ولما كان محلا لجميع القوى الظاهرة والباطنة ولكل قوة حكم وسلطان وفخر يورثها ذلك عزة على غيرها، وكان محل هذه القوى من الرأس مختلفة فعمت الرأس كله وجب مسح كله في هذه العبارة لهذه الرياسة السارية فيه كله من جهة هذه القوى بالتواضع والاقناع، فيكون لكل قوة مسح مخصوص من مناسبة دعواها، وهذا ملحظ من يرى وجوب مسح جميع الرأس؛ ومن رأى تفاوت القوى بالرياسة فإن القوة المصورة مثلاً لها سلطان على القوة الخيالية فهي الرئيسة عليها، وإن كانت للقوة الخيالية رياسة قال: الواجب عليه مسح بعض الرأس وهو المقسم بالأعلى، ثم اختلفوا في هذا البعض، فكل عارف قال بحسب ما أعطاه الله تعالى من الإدراك في مراتب هذه القوة فيمسح بحسب ما يرى، ومعنى المسح هو التذلل وإزالة الكبرياء والشموح بالتواضع والعبودية لأن المتوضىء بصدد مناجاة ربه وطلب وصلته، والعزيز الرئيس إذا دخل على من ولاه تلك العزة ينعزل عن عزته ورياسته بعز من دخل عليه فيقف بين يديه وقوف العبيد في محل الإذلال لا بصفة الإذلال فمن غلب على خاطره رياسة بعض القوى على غيرها وجب عليه مسح ذلك البعض من أجل الوصلة التي تطلب بهذه العبادة ولهذا لم يشرع مسح الرأس في التيمم لأن وضع التراب على الرأس من علامات الفراق، فترى الفاقد حبيبه بالموت يضع التراب على رأسه، وتفصيل رياسات القوى معلوم عند أهل هذا الشأن، وأما التبعيض في اليد الممسوح بها، واختلافهم في ذلك فاعمل فيه كما تعمل في الممسوح سواء، فإن المزيل لهذه الرياسة أسباب مختلفة في القدرة على ذلك، ومحل ذلك اليد، فمن مزيل بصفة القهر ومن مزيل بسياسة وترغيب إلى آخر ما قال: {وَأَرْجُلَكُمْ} أشير بها إلى القوى الطبيعية البدنية المنهمكة في الشهوات والإفراط باللذات، وغسلها بماء علم الأخلاق وعلم الرياضيات حتى ترجع إلى الصفاء الذي يستعد به القلب للحضور والمناجاة. وفي «الفتوحات» اختلفوا في صفة طهارتها بعد الاتفاق على أنها من أعضاء الوضوء هل ذلك بالغسل أو بالمسح أو بالتخيير بينهما؟ ومذهبنا التخيير، والجمع أولى، وما من قول إلا وبه قائل، والمسح بظاهر الكتاب، والغسل بالسنة، ومحتمل الآية بالعدول عن الظاهر منها، وأما حكم ذلك في الباطن فاعلم أن السعي إلى الجماعات وكثرة الخطا إلى المساجد والثبات يوم الزحف مما تطهر به الأقدام فلتكن طهارة رجليك بما ذكرناه وأمثاله، ولا تتمثل بالنميمة بين الناس ولا تمش مرحاً واقصد في مشيك واغضض من صوتك، ومن هذا ما هو فرض بمنزلة المرة الواحدة في غسل عضو الوضوء الرجل وغيره، ومنه ما هو سنة وهو ما زاد على الفرض، وهو مشيك فيما ندبك الشرع إليه وما أوجبه عليك، فالواجب عليك نقل الأقدام إلى مصلاك، والمندوب والمستحب والسنة وما شئت فقل من ذلك نقل الأقدام إلى المساجد من قرب وبعد، فإن ذلك ليس بواجب فإن كان الواجب من ذلك عند بعض الناس مسجداً لا بعينه وجماعة لا بعينها فعلى هذا يكون غسل رجليك في الباطن من طريق المعنى، واعلم أن الغسل يتضمن المسح فمن غسل فقد أدرج المسح فيه كاندراج نور الكواكب في نور الشمس، ومن مسح لم يغسل إلا في مذهب من يرى، وينقل عن العرب أن المسح لغة في الغسل فيكون من الألفاظ المترادفة، والصحيح في المعنى في حكم الباطن أن يستعمل المسح فيما يقتضي الخصوص من الأعمال، والغسل فيما يقتضي العموم، ولهذا كان مذهبنا التخيير بحسب الوقت، فإن الشخص قد يسعى لفضيلة خاصة في حاجة شخص بعينه فذلك بمنزلة المسح، وقد يسعى للملك في حاجة تعم الرعية فيدخل ذلك الشخص في هذا العموم فذلك بمنزلة الغسل الذي اندرج فيه المسح انتهى. {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} الجنابة غربة العبد عن موطنه الذي يستحقه، وليس إلا العبودية وتغريب صفة ربانية عن موطنها وكل ذلك يوجب التطهير، وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُم مرضى} الخ قد تقدم نظيره. وفي «الفتوحات» اختلف في حد الأيدي المذكورة في هذه الطهارة، فمن قائل: حدها مثل حدها في الوضوء ومن قائل: هو الكف فقط وبه أقول ومن قائل: إن الاستحباب إلى المرفقين والفرض الكفان، ومن قائل: إن الفرض إلى المناكب، والاعتبار في ذلك أنه لما كان التراب في الأرض أصل نشأة الإنسان وهو تحقيق عبوديته وذلته أمر بطهارة نفسه من التكبر بالتراب، وهو حقيقة عبوديته ويكون ذلك بنظره في أصل خلقه، ولما كان من جملة ما يدعيه الاقتدار والعطاء مع أنه مجبول على العجز والبخل، وهذه الصفات من صفات الأيدي قيل له عند هذه الدعوة ورؤية نفسه في الاقتدار الظاهر منه، والكرم والعطاء: طهر نفسك من هذه الصفة بنظرك فيما جبلت عليه من ضعفك ومن بخلك فقد قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} [الروم: 54] {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [الحشر: 9] {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} [المعارج: 21] فإذا نظر إلى هذا الأصل زكت نفسه وتطهرت من الدعوى، واختلفوا في عدد الضربات على الصعيد للتيمم، فمن قائل: واحدة، ومن قائل: اثنتان، والقائلون بذلك، منهم من قال: ضربة للوجه وضربة لليدين، ومنهم من قال: ضربتان لليد وضربتان للوجه، ومذهبنا أنه من ضرب واحدة أجزأه، ومن ضرب اثنتين اجزأه وحديث الضربة الواحدة أثبت، والاعتبار في ذلك التوجه إلى ما يكون به هذه الطهارة، فمن غلب التوحيد في الأفعال قال: بالضربة الواحدة، ومن غلب حكم السبب الذي وضعه الله تعالى ونسب الفعل إلى الله تعالى مع تعريته عنه مثل قوله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] فأثبت ونفى قال: بالضربتين ومن قال: إن ذلك في كل فعل قال: بالضربتين لكل عضو انتهى. وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في أنواع الطهارة وأتى فيه بالعجب العجاب. {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ} أي من ضيق ومشقة بكثرة المجاهدات {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} من الصفات الخبيثة، وعن سهل: الطهارة على سبعة أوجه: طهارة العلم من الجهل وطهارة الذكر من النسيان وطهارة اليقين من الشك وطهارة العقل من الحمق وطهارة الظن من التهمة وطهارة الإيمان مما دونه وطهارة القلب من الإرادات، وقال: إسباغ طهارة الظاهر تورث طهارة الباطن، وإتمام الصلاة يورث الفهم عن الله تعالى، والطهارة تكون في أشياء: في صفاء المطعم ومباينة الأنام وصدق اللسان وخشوع السر، وكل واحد من هذه الأربع مقابل لما أمر الله تعالى بتطهيره وغسله من الأعضاء الظاهرة. وقال ابن عطاء: البواطن مواضع نظر الحق سبحانه فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم»، فموضع نظر الحق جل وعلا أحق بالطهارة، وذلك إنما يكون بإزالة أنواع الخيانات والمخالفات وفنون الوساوس والغش والحقد والرياء والسمعة وغير ذلك من المناهي، وليس شيء على العارفين أشد من جمع الهم وطهارة السر، وفي إضافة التطهير إليه تعالى ما لا يخفى من اللطف {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} بالتكميل، وقال بعض العارفين: إتمام النعمة لقوم نجاتهم بتقواهم، وعلى آخرين نجاتهم عن تقواهم فشتان بين قوم وقوم و{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] نعمة الكمال بالاستقامة والقيام بحق العدالة عند البقاء بعد الفناء {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} بالهداية إلى طريق الوصول إليه، {وميثاقه الذى وَاثَقَكُم بِهِ} وهو عقود عزائمه المذكورة {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7] أي إذا قبلتموها من معدن النبوة بصفاء الفطرة، وقال بعضهم: المراد بنعمة الله تعالى هدايته سبحانه السابقة في الأزل لأهل السعادة، وبالميثاق الميثاق الذي واثق الله تعالى به عباده أن لا يشتغلوا بغيره عنه سبحانه، وقال أبو عثمان: النعم كثيرة وأجلها المعرفة به سبحانه، والمواثيق كثيرة وأجلها الإيمان {الجحيم يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} أي من قوى نفوسكم المحجوبة وصفاتها {أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالاستيلاء والقهر لتحصيل مآربها وملاذها {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} أي فمنعها عنكم بما أراكم من طريق التطهير والتنزيه {واتقوا الله} واجعلوه سبحانه وقاية في قهرها ومنعها {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [المائدة: 11] برؤية الأفعال كلها منه عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً} وهم في الأنفس الحواس الخمس الظاهرة، والخمس الباطنة والقوة العاقلة النظرية والقوة العملية، وذكر غير واحد من ساداتنا الصوفية أن النقباء أحد أنواع: الأولياء: نفعنا الله تعالى ببركاتهم، ففي «الفتوحات»: ومنهم النقباء وهم إثنا عشر نقيباً في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك الإثنى عشر برجاً، كل نقيب عالم بخاصية كل برج، وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات، وما يعطى للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت، فإن للثوابت حركات وقطعاً في البروج لا يشعر به في الحس لأنه لا يظهر ذلك إلا في آلاف من السنين، وأعمار الرصد تقصر عن مشاهدة ذلك؛ واعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها، وإبليس مكشوف عندهم يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم أثر وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي مثل العلماء بالآثار والقيافة، وبالديار المصرية منهم كثير يخرجون الأثر في الصخور، وإذا رأوا شخصاً يقولون: هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر وليسوا بأولياء، فما ظنك بما يعطيه الله تعالى لهؤلاء النقباء من علوم الآثار؟ انتهى. وقد عد الشيخ قدس سره فيها أنواعاً كثيرة، والسلفيون ينكرون أكثر تلك الأسماء، ففي بعض «فتاوي ابن تيمية»، وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين والنجباء الثلثمائة، فهي ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل إلا لفظ الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن فيهم يعني أهل الشام الأبدال أربعين رجلاً كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلاً " ولا توجد أيضاً في كلام السلف انتهى، وأنا أقول: وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد {وَقَالَ الله} تعالى {إِنّى مَعَكُمْ} بالتوفيق والإعانة {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة} وتحليتم بالعبادات البدنية {وَلَقَدْ أَخَذَ} وتخليتم عن الصفات الذميمة من البخل والشح فزهدتم وآثرتم {وَلَقَدْ أَخَذَ} جميعهم من العقل والإلهامات والأفكار الصائبة والخواطر الصادقة من الروح والقلب وإمداد الملكوت {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي وعظتموهم بأن سلطتموهم على شياطين الوهم وقويتموهم ومنعتموهم من الوساوس وإلقاء الوهميات والخيالات والخواطر النفسانية {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} بأن تبرأتم من الحول والقوة والعلم والقدرة، وأسندتم كل ذلك إليه عز شأنه، بل ومن الأفعال والصفات جميعها، بل ومن الذات بالمحو والفناء وإسلامها إلى باريها جل وعلا {لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ} التي هي الحجب والموانع لكم {سيئاتكم وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات} مما عندي {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} وهي أنهار علوم التوكل والرضاء والتسليم والتوحيد، وتجليات الأفعال والصفات والذات {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك} العهد وبعث النقباء منكم {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} [المائدة: 12] وهلك مع الهالكين {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} الذي وثقوه {لعناهم} وطردناهم عن الحضرة {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} باستيلاء صفات النفس عليها وميلها إلى الأمور الأرضية {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} حيث حجبوا عن أنوار الملكوت والجبروت التي هي كلمات الله تعالى واستبدلوا قوى أنفسهم بها واستعملوا وهمياتهم وخيالاتهم بدل حقائقها {وَنَسُواْ حَظَّا} نصيباً وافراً {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} في العهد اللاحق وهو ما أوتوه في العهد السابق من الكمالات الكامنة في استعداداتهم الموجودة فيها بالقوة {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ} من نقض عهد ومنع أمانة لاستيلاء شيطان النفس عليهم وقساوة قلوبهم {إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} وهو من جره استعداده إلى ما فيه صلاحه {فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} [المائدة: 13] إلى عباده باللطف والمعاملة الحسنة جعلنا الله تعالى وإياكم من المحسنين.
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم} شروع في بيان قبائح النصارى وجناياتهم إثر بيان قبائح وجنايات إخوانهم اليهود، و{مِنْ} متعلقة بأخذنا، وتقديم الجار للاهتمام، ولأن ذكر ( حال) إحدى الطائفتين مما يوقع في ذهن السامع أن حال الأخرى ماذا؟ كأنه قيل: ومن الطائفة الأخرى أيضاً أخذنا ميثاقهم والضمير المجرور راجع إلى الموصول، أو عائد على بني إسرائيل الذين عادت إليهم الضمائر السابقة، وهو نظير قولك: أخذت من زيد ميثاق عمرو أي مثل ميثاقه. وجوز أن يكون الجار متعلقاً بمحذوف وقع خبراً لمبتدأ محذوف أيضاً، وجملة {أَخَذْنَا} صفة أي ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا منهم ميثاقهم وقيل: المبتدأ المحذوف {مِنْ} الموصولة، أو الموصوفة، ولا يخفى أن جواز حذف الموصول وإبقاء صلته لم يذهب إليه سوى الكوفيين. وإنما قال سبحانه: {قَالُواْ إِنَّا نصارى} ولم يقل جل وعلا ومن النصارى كما هو الظاهر بدون إطناب للإيماء كما قال بعضهم: إلى أنهم على دين النصرانية بزعمهم ولسوا عليها في الحقيقة لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبينا صلى الله عليه وسلم، وقيل: للإشارة إلى أنهم لقبوا بذلك أنفسهم على معنى أنهم أنصار الله تعالى، وأفعالهم تقتضي نصرة الشيطان، فيكون العدول عن الظاهر ليتصور تلك الحال في ذهن السامع ويتقرر أنهم ادعوا نصرة الله تعالى وهم منها بمعزل، ونكتة تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله تعالى ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بالدعوى وقولها دون فعلها، ولا يخفى أن هذا مبني على أن وجه تسميتهم نصارى كونهم أنصار الله تعالى وهو وجه مشهور، ولهذا يقال لهم أيضاً: أنصار، وفي غير ما موضع أن عيسى عليه السلام ولد في سنة أربع وثلثمائة لغلبة الإسكندر في بيت لهم من المقدس، ثم سارت به أمه عليها السلام إلى مصر، ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام فأقام ببلدة تسمى الناصرة، أو «نصورية وبها سميت النصارى ونسبوا إليها، وقيل: إنهم جمع نصران كندامى. وندمان أو جمع نصري كمهري. ومهاري والنصرانية والنصرانة واحدة النصارى، والنصرانية أيضاً دينهم، ويقال لهم: نصارى وأنصار، وتنصر دخل في دينهم». {فَنَسُواْ} على إثر أخذ الميثاق {حَظّاً} نصيباً وافراً {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك من الفرائض، وقيل: هو ما كتب عليهم في الإنجيل من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم وتفرقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة {فَأَغْرَيْنَا} أي ألزمنا وألصقنا، وأصله اللصوق يقال: غريت بالرجل غرى إذا لصقت به قاله الأصمعي، وقال غيره: غريت به غراءاً بالمد، وأغريت زيداً بكذا حتى غرى به، ومنه الغراء الذي يلصق به الأشياء، وقوله تعالى: {بَيْنَهُمْ} ظرف لأغرينا أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من مفعوله أي أغرينا {العداوة والبغضاء} كائنة بينهم. قال أبو البقاء: ولا سبيل إلى جعله ظرفاً لهما لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، وأنت تعلم أن منهم من أجاز ذلك إذا كان المعمول ظرفاً، وقوله تعالى: {إلى يَوْمِ القيامة} إما غاية للإغراء، أو للعداوة والبغضاء أي يتعادون ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الكثيرة، ومنها النسطورية واليعقوبية والملكانية، وقد تقدم الكلام فيهم، فضمير {بَيْنَهُمْ} إلى النصارى كما روي عن الربيع، واختاره الزجاج. والطبري، وعن الحسن. وجماعة من المفسرين أنه عائد على اليهود والنصارى. {وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} في الدنيا من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به، والكلام مساق للوعيد الشديد بالجزاء والعقاب؛ فالإنباء مجاز عن وقوع ذلك وانكشافه لهم، لا أن ثمت أخباراً حقيقة، والنكتة في التعبير بالإنباء الإنباء بأنهم لا يعلمون حقيقة ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعها للعذاب، فيكون ترتيب العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها، والالتفات إلى ذكر الاسم الجليل لما مرّ مراراً، والتعبير عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم فيه و{سَوْفَ} لتأكيد الوعيد.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)} {مّنْ أَهْلِ الكتاب} التفات إلى خطاب الفريقين من اليهود والنصارى على أن الكتاب جنس صادق بالواحد والاثنين وما فوقهما، والتعبير عنهم بعنوان أهلية الكتاب للتشنيع، فإن أهلية الكتاب من موجبات مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} محمد صلى الله عليه وسلم، والتعبير عنه بذلك مع الإضافة إلى ضمير العظمة للتشريف والإيذان بوجوب اتباعه عليه الصلاة والسلام {يُبَيّنُ لَكُمْ} حال من {رَسُولِنَا} وإيثار الفعلية للدلالة على تجدد البيان أي حال كونه مبيناً لكم على سبيل التدريج حسبما تقتضيه المصلحة {كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} أي التوراة والإنجيل، وذلك كنعت النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد عليهما الصلاة والسلام، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال: إن نبي الله تعالى صلى الله عليه وسلم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال عليه الصلاة والسلام: «أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام والذي رفع الطور وبالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله تعالى هذه الآية» وتأخير {كَثِيراً} عن الجار والمجرور لما مرّ غير مرة، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء، و{مّمَّا} متعلق بمحذوف وقع صفة لكثيراً وما موصولة اسمية وما بعدها صلتها، والعائد محذوف، و{مّنَ الكتاب} حال من ذلك المحذوف أي يبين لكم كثيراً من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والعاكفون عليه {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي ولا يظهر كثيراً مما تخفونه إذا لم تدع إليه داعية دينية صيانة لكم عن زيادة الافتضاح، وقال الحسن: أي يصفح عن كثير منكم ولا يؤاخذه إذا تاب واتبعه، وأخرج ابن حميد عن قتادة مثله، واعترض أنه مخالف للظاهر لأن الظاهر أن يكون هذا الكثير كالكثير السابق، وفيه نظر كما قال الشهاب لأن النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة، نعم اختار الأول الجبائي وجماعة من المفسرين، والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلة في حكمها. {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ} عظيم وهو نور الأنوار والنبي المختار صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب قتادة واختاره الزجاج، وقال أبو علي الجبائي: عنى بالنور القرآن لكشفه وإظهاره طرق الهدى واليقين واقتصر على ذلك الزمخشري، وعليه فالعطف في قوله تعالى: {وكتاب مُّبِينٌ} لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات، وأما على الأول: فهو ظاهر، وقال الطيبي: إنه أوفق لتكرير قوله سبحانه: {قَدْ جَاءكُمُ} بغير عاطف فعلق به أولاً وصف الرسول والثاني: وصف الكتاب، وأحسن منه ما سلكه الراغب حيث قال: بين في الآية الأولى والثانية النعم الثلاث التي خص بها العباد النبوة والعقل والكتاب، وذكر في الآية الثالثة ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدم ف {يَهْدِى بِهِ} [المائدة: 16] إلى آخره يرجع إلى قوله سبحانه: {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} و{يُخْرِجُهُم} [المائدة: 16] الخ يرجع إلى قوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمُ من الله نُورٍ} و{وَيَهْدِيهِمْ} [المائدة: 16] يرجع إلى قوله عز شأنه: {وكتاب مُّبِينٌ} كقوله: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] انتهى. وأنت تعلم أنه لا دليل لهذا الإرجاع سوى اعتبار الترتيب اللفظي، ولو أرجعت الأحكام الثلاثة إلى الأول لم يمتنع، ولا يبعد عندي أن يراد بالنور والكتاب المبين النبي صلى الله عليه وسلم، والعطف عليه كالعطف على ما قاله الجبائي، ولا شك في صحة إطلاق كل عليه عليه الصلاة والسلام، ولعلك تتوقف في قبوله من باب العبارة فليكن ذلك من باب الإشارة، والجار والمجرور متعلق بجاء، و{مِنْ} لابتداء الغاية مجازاً، أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من نور، وتقديم ذلك على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجىء من جهته تعالى العالية والتشويق إلى الجائي، ولأن فيه نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم، والمبين من بان اللازم بمعنى ظهر فمعناه الظاهر الإعجاز، ويجوز أن يكون من المتعدي فمعناه المظهر للناس ما كان خافياً عليهم.
{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} {يَهْدِى بِهِ الله} توحيد الضمير لاتحاد المرجع بالذات، أو لكونهما في حكم الواحد، أو لكون المراد يهدي بما ذكر، وتقديم المجرور للاهتمام نظراً إلى المقام وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية، ومحل الجملة الرفع على أنها صفة ثانية لكتاب، أو النصب على الحالية منه لتخصيصه بالصفة. جوز أبو البقاء أن تكون حالاً من {رَسُولِنَا} بدلاً من {يُبِينُ} [المائدة: 15] وأن تكون حالاً من الضمير في {يُبِينُ}، وأن تكون حالاً من الضمير في {مُّبِينٌ}، وأن تكون صفة لنور {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} أي من علم الله تعالى أنه يريد اتباع رضا الله تعالى بالإيمان به، و{مِنْ} موصولة أو موصوفة {سُبُلَ السلام} أي طرق السلامة من كل مخافة قاله الزجاج فالسلام مصدر بمعنى السلامة. وعن الحسن والسدي أنه اسمه تعالى، ووضع المظهر موضع المضمر رداً على اليهود والنصارى الواصفين له سبحانه بالنقائص تعالى عما يقولون علواً كبيراً، والمراد حينئذٍ بسبله تعالى شرائعه سبحانه التي شرعها لعباده عز وجل، ونصبها قيل: على أنها مفعول ثان ليهدي على إسقاط حرف الجر نحو {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]. وقيل: إنها بدل من رضوان بدل كل من كل، أو بعض من كل أو اشتمال، والرضوان بكسر الراء وضمها لغتان، وقد قرىء بهما، والسبل بضم الباء والتسكين لغة، وقد قرىء به. {وَيُخْرِجُهُمْ} الضمير المنصوب عائد إلى {مِنْ} والجمع باعتبار المعنى كما أن إفراد الضمير المرفوع في {أَتَّبِعُ} باعتبار اللفظ. {مِنَ الظلمات إِلَى النور} أي من فنون الكفر والضلال إلى الإيمان {بِإِذْنِهِ} أي بإرادته أو بتوفيقه. {وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} وهو دين الإسلام الموصل إلى الله تعالى كما قال الحسن وفي «إرشاد العقل السليم»، «وهذه الهداية عين الهداية إلى {سُبُلَ السلام} وإنما عطفت عليها تنزيلاً للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}» [هود: 58]. وقال الجبائي: المراد بالصراط المستقيم طريق الجنة.
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} لا غير المسيح كما يقال: الكرم هو التقوى، وأن الله تعالى هو الدهر أي الجالب للحوادث لا غير الجالب، فالقصر هنا للمسند إليه على المسند بخلاف قولك: زيد هو المنطلق فإن معناه لا غير زيد، والقائلون لذلك على ما هو المشهور هم اليعقوبية المدعون بأن الله سبحانه قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه. وقيل: لم يصرح بهذا القول أحد من النصارى، ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتاً مع تصريحهم بالوحدة، وقولهم: لا إله إلا واحد لزمهم أن الله سبحانه هو المسيح، فنسب إليهم لازم قولهم توضيحاً لجهلهم وتفضيحاً لمعتقدهم، وقال الراغب: فإن قيل: إن أحداً لم يقل الله تعالى هو المسيح وإن قالوا المسيح هو الله تعالى وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت فيصح أن يقال المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت كما صح أن يقال: الإنسان هو حيوان مع تركبه من العناصر، ولا يصح أن يقال: اللاهوت هو المسيح كما لا يصح أن يقال: الحيوان هو الإنسان، قيل: إنهم قالوا: هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت، وهو ما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه لما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا: ما تقولون في عيسى عليه الصلاة والسلام؟ فقال أحدهم: أو تعلمون أحداً يحيي الموتى إلا الله تعالى؟ فقالوا: لا، فقال: أو تعلمون أحداً يبرىء الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟ قالوا: لا، قالوا: فما الله تعالى إلا من هذا وصفه أي حقيقة الآلهية فيه، وهذا كقولك: الكريم زيد أي حقيقة الكرم في زيد، وعلى هذا قولهم: إن الله تعالى هو المسيح انتهى، وأنت تعلم أنه مع دعوى أن القائلين بالاتحاد يقولون بانحصار المعبود في المسيح كما هو ظاهر النظم لا يرد شيء. {قُلْ} يا محمد تبكيتاً لهم وإظهاراً لبطلان قولهم الفاسد وإلقاماً لهم الحجر، وقد يقال: الخطاب لكل من له أهلية ذلك، والفاء في قوله تعالى: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً} عاطفة على مقدر، أو جواب شرط محذوف، و{مِنْ} استفهامية للإنكار والتوبيخ، والملك الضبط والحفظ التام عن حزم، والمراد هنا فمن يمنع أو يستطيع كما في قوله: أصبحت لا أحمل السلاح ولا *** أملك رأس البعير إن نفرا و{مِنَ الله} متعلق به على حذف مضاف أي ليس الأمر كذلك، أو إن كان كما تزعمون فمن يمنع من قدرته تعالى وإرادته شيئاً {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الارض جَمِيعاً} ومن حق من يكون إلهاً أن لا يتعلق به ولا بشأن من شؤونه، بل بشيء من الموجودات قدرة غيره فضلاً عن أن يعجز عن دفع شيء منها عند تعلقها بهلاكه، فلما كان عجزه بينا لا ريب فيه ظهر كونه بمعزل عما تقولون فيه. والمراد بالإهلاك الإماتة والإعدام مطلقاً لا عن سخط وغضب، وإظهار المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الألوهية حيث ذكرت معه الصفة في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتنصيص على أنه من تلك الحيثية بعينها داخل تحت قهره تعالى وملكوته سبحانه، وقيل: وصفه بذلك للتنبيه على أنه حادث تعلقت به القدرة بلا شبهة لأنه تولد من أم، وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها في عموم المعطوف لزيادة تأكيد عجز المسيح، ولعل نظمها في سلك من فرض (إرادة) إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها أنموذجاً لحال بقية من فرض إهلاكه، وتعميم إرادة الإهلاك مع حصول الغرض بقصرها على عيسى عليه الصلاة والسلام لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره وملكوته تعالى لا يقدر (أحد) على دفع ما أريد به فضلاً عما أريد بغيره، وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك كما أنه أسوة لهم في العجز وعدم استحقاق الألوهية. قاله المولى أبو السعود، و{جَمِيعاً} حال من المتعاطفات، وجوز أن يكون حالاً من {مِنْ} فقط لعمومها. وقوله تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي ما بين طرفي العالم الجسماني فيتناول ما في السموات من الملائكة وغيرها، وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات، قيل: تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته إثر الإشارة إلى كون البعض كذلك أي له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها إيجاداً وإعداماً، وإحياءاً وإماتة لا لأحد سواه استقلالاً ولا اشتراكاً، فهو تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى إثر بيان انتفائها عما سواه، وقيل: دليل آخر على نفي ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لو كان إلهاً كان له ملك السموات والأرض وما بينهما، وقيل: دليل على نفي كونه عليه الصلاة والسلام ابناً ببيان أنه مملوك لدخوله تحت العموم، ومن المعلوم أن المملوكية تنافي البنوة. وقوله تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبه في أمر المسيح عليه السلام لولادته من غير أب وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، و{مَا} نكرة موصوفة محلها النصب على المصدرية أي يخلق أي خلق يشاؤه، فتارة يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض مثلاً، وأخرى من أصل كخلق بعض ما بينهما وذلك متنوع أيضاً، فطوراً ينشىء من أصل ليس من جنسه كخلق آدم، وكثير من الحيوانات وتارة من أصل يجانسه إما من ذكر وحده كخلق حواء أو من أنثى وحدها كخلق عيسى عليه الصلاة والسلام أو منهما كخلق سائر الناس، ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات ككثير من المخلوقات وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزة له. وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فينبغي أن ينسب كل ذلك إليه تعالى لا من أجرى على يده قاله غير واحد. وقيل: إن الجملة جيء بها ههنا مبينة لما هو المراد من قوله تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض} الخ بحسب اقتضاء المقام، و{مَا} نصب على المصدرية أيضاً، وقيل: يجوز أن تكون موصولة ومحلها النصب على المفعولية أي يخلق الذي يشاء أن يخلقه، والجملة مسوقة لبيان أن قدرته تعالى أوسع من عالم الوجود، وعلى كل تقدير فقوله سبحانه: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} تذييل مقرر لمضمون ما قبله وإظهار الاسم الجليل لما مر من التعليل وتقوية استقلال الجملة.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)} {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله} حكاية لما صدر من الفريقين من الدعوى الباطلة لأنفسهم، وبيان لبطلانها إثر ذكر ما صدر عن أحدهما من الدعوى الباطلة لغيره وبيان بطلانها أي قال كل من الطائفتين هذا القول الباطل، ومرادهم بالأبناء المقربون أي نحن مقربون عند الله تعالى قرب الأولاد من والدهم، وبالأحباء جمع حبيب بمعنى محب أو محبوب، ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء الخاصة كما يقال: أبناء الدنيا، وأبناء الآخرة، وأن يكون أرادوا أشياع من وصف بالبنوة أي قالت اليهود نحن أشياع ابنه عزير، وقالت النصارى: نحن أشياع ابنه المسيح عليهما السلام، وأطلق الأبناء على الأشياع مجازاً إما تغليباً أو تشبيهاً لهم بالأبناء في قرب المنزلة، وهذا كما يقول أتباع الملك: نحن الملوك، وكما أطلق على أشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبون في قوله: قدنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبِيْنَ قَدِي *** على رواية من رواه بالجمع، فقد قال ابن السكيت: يريد أبا خبيب ومن كان معه، فحيث جاز جمع خبيب وأشياع أبيه فأولى أن يجوز جمع ابن الله عز اسمه وأشياع الابن بزعم الفريقين، فاندفع ما قيل: إنهم لا يقولون ببنوة أنفسهم ولم يحمل على التوزيع بمعنى أنفسنا الأحباء وأبناؤنا الأبناء بجمع الإبنين لمشاكلة الأحباء لأن خطاب {بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ} يأباه ظاهراً ويدل على ادعائهم البنوة بأي معنى كان. وقيل: الكلام على حذف المضاف أي نحن أبناء أنبياء الله تعالى وهو خلاف الظاهر، وقائل ذلك من اليهود بعضهم، ونسب إلى الجميع لما مر غير مرة، فقد أخرج ابن جرير. والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن آص وبحرى بن عمرو وشاش بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله تعالى وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه، وقالت النصارى ذلك قبلهم، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية» وعن الحسن أن النصارى تأولوا ما في الإنجيل من قول المسيح: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم فقالوا ما قالوا. وعندي أن إطلاق ابن الله تعالى على المطيع قد كان في الزمن القديم، ففي التوراة قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى فرعون وقل له يقول لك الرب إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك، وفيها أيضاً في قصة الطوفان أنه لما نظر بنو الله تعالى إلى بنات الناس وهم حسان جداً شغفوا بهن فنكحوا منهن ما أحبوا واختاروا فولدوا جبابرة فأفسدوا فقال الله تعالى: لا تحل عنايتي على هؤلاء القوم، وأريد بأبناء الله تعالى أولاد هابيل، وبأبناء الناس أبناء قابيل، وكنّ حساناً جداً فصرفن قلوبهن عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الأوثان، وفي المزامير أنت ابني سلني أعطك، وفيها أيضاً أنت ابني وحبيبي، وقال شعيا في نبوته عن الله تعالى: تواصوا بي في أبنائي وبناتي يريد ذكور عباد الله تعالى الصالحين وإناثهم، وقال يوحنا الإنجيلي في الفصل الثاني من «الرسالة الأولى» انظروا إلى محبة الأب لنا أن أعطانا أن ندعى أبناء وفي الفصل الثالث أيها الأحباء الآن صرنا أبناء الله تعالى فينبغي لنا أن ننزله في الإجلال على ما هو عليه فمن صح له هذا الرجاء فليزك نفسه بترك الخطيئة والإثم، واعلموا أن من لابس الخطيئة فإنه لم يعرفه وقال متى: قال المسيح: أحبوا أعداءكم، وباركوا على لاعنيكم، وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا على من طردكم، كيما تكونوا بني أبيكم المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، وقال يوحنا التلميذ في «قصص الحواريين»: يا أحبائي إنا أبناء الله تعالى سمانا بذلك، وقال بولس الرسول في «رسالته إلى ملك الروم»: إن الروح تشهد لأرواحنا أننا أبناء الله تعالى وأحباؤه، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وقد جاء أيضاً إطلاق الابن على العاصي ولكن بمعنى الأثر ونحوه، ففي «الرسالة الخامسة لبولس» إياكم والسفه والسب واللعب فإن الزاني والنجس كعابد الوثن لا نصيب له في ملكوت الله تعالى واحذروا هذه الشرور فمن أجلها يأتي رجز الله على الأبناء الذين لا يطيعونه، وإياكم أن تكونوا شركاء لهم فقد كنتم قبل في ظلمة فاسعوا الآن سعي أبناء النور. ومقصود الفريقين بـ {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} هو المعنى المتضمن مدحاً، وحاصل دعواهم أن لهم فضلاً ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق، فرد سبحانه عليهم ذلك، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} إلزاماً لهم وتبكيتاً {فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم يوم القيامة بالنار أياماً بعدد أيام عبادتكم العجل، وقد اعترفتم بذلك في غير ما موطن، وهذا ينافي دعواكم القرب ومحبة الله تعالى لكم أو محبتكم له المستلزمة لمحبته لكم كما قيل: ما جزاء من يحب إلا يحب، أو فلأيّ شيء أذنبتم بدليل أنكم ستعذبون، وأبناء الله تعالى إنما يطلق إن أطلق في مقام الافتخار على المطيعين كما نطقت به كتبكم، أو إن صح ما زعمتم فلم عذبكم بالمسخ الذي لا يسعكم إنكاره، وعدّ بعضهم من العذاب البلايا والمحن كالقتل والأسر، واعترض ذلك بأنه لا يصلح للإلزام فإن البلايا والمحن قد كثرت في الصلحاء، وقد ورد «أشد الناس بلاءاً الأنبياء عليهم السلام ثم الأمثل فالأمثل»، وقال الشاعر: ولكنهم أهل الحفائظ والعلا *** فهم لملمات الزمان خصوم وقوله تعالى: بَلْ أَنتُم بَشَرٌ عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ليس الأمر كذلك {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ} وإن شئت قدرت مثل هذا في أول الكلام وجعلت الفاء عاطفة، وقوله سبحانه: {مّمَّنْ خَلَق} متعلق بمحذوف وقع صفة {بُشّرَ} أي بشر كائن من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم. {يَغْفِرُ مَن يَشَآء} أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم المؤمنون به تعالى وبرسله عليهم الصلاة والسلام {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أن يعذبه وهم الذين كفروا به سبحانه وبرسله عليهم السلام مثلكم، والذي دل على التخصيص قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] إن قلنا بعمومه كما هو المعروف المشهور، ومن الغريب ما في «شرح مسلم» للنووي أنه يحتمل أن يكون مخصوصاً بهذه الأمة وفيه نظر. هذا وأورد بعض المحققين هنا إشكالاً ذكر أنه قوي وهو أنه إذا كان معنى {نَحْنُ أَبْنَاء الله} تعالى أشياع بنيه فغاية الأمر أن يكونوا على طريقة الابن تحقيقاً للتبعية لكن من أين يلزم أن يكونوا من جنس الأب كما صرح به الزمخشري في انتفاء فعل القبائح، وانتفاء البشرية والمخلوقية ليحسن الرد عليهم بأنهم بشر ممن خلق، نعم ما ذكروه في هذا المقام من استلزام المحبة عدم العصيان والمعاقبة ربما يتمشى لأن من شأن المحب أن لا يعصي الحبيب ولا يستحق منه المعاقبة، ومن هنا قيل: تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمري في الفعال بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع وفيه مناقشة لأن هذا شأن المحبين والأحباء هم المحبون، وأجاب عن إشكال إثبات البشرية بأنه ليس إثباتاً لمطلق البشرية ليجب أن يكون رد الدعوى بانتفائه بل هو إثبات أنهم بشر مثل سائر البشر، ومن جنس سائر المخلوقين منهم العاصي والمطيع والمستحق للمغفرة والعذاب لا كما ادعوا من أنهم الأشياع المخصوصون بمزيد قرب واختصاص لا يوجد في سائر البشر ولذا وصف بشراً بقوله سبحانه: {ممن خلق} حتى لا يبعد أن يكون {يغفر لمن يشاء} أيضاً في موقع الصفة على حذف العائد أي لمن يشاء منهم، وأما إشكال الجنسية فقيل في جوابه: المراد أنكم لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم على صفتهم في ترك القبائح وعدم استحقاق العذاب لأن من شأن الأشياع والأتباع أن يكونوا على صفة المتبوعين، والمتبوعون هنا هم الأبناء بالزعم، ومن شأن الأبناء أن يكونوا على صفة الأب فمن شأن الأتباع أن يكونوا على صفة الأب بالواسطة، وقيل: كلام من قال: يلزم أن يكونوا من جنس الأب على حذف مضاف، أي لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم من جنس أشياع الأب يعني أهل الله تعالى الذين لا يفعلون القبائح ولا يستوجبون العقاب. وفي «الكشف» أن قولهم: {نحن أبناء الله} تعالى فيه إثبات الإبن، وأنهم من أشياعه مستوجبون محبة الأب لذلك فينبغي أن يكون الرد مشتملاً على هدم القولين فقيل: من أسندتم إليه البنوة لا يصلح لها لإمكان القبيح عليه وصدوره هفوة ومؤاخذته بالزلة ودعواكم المحبة كاذبة وإلا لما عذبتم، وأيضاً إذا بطل أن يكون له تعالى ابن بطل أن يكون أشياعه، وكذلك المحبة المبنية على ذلك، ثم قال: وجاز أن يقال: إنه لإبطال أن يكونوا أبناءاً حقيقة كما يفهم من ظاهر اللفظ أو مجازاً كما فسره الزمخشري اه. وأنت تعلم أن كل ما ذكره ليس بشيء كما لا يخفى على من له أدنى تأمل، وما ذكرناه كاف في الغرض. نعم ذكر الشهاب عليه الرحمة توجيهاً لا بأس به، وهو أن اللائق أن يكون مرادهم بكونهم أبناء الله تعالى أنه لما أرسل إليهم الابن على زعمهم وأرسل لغيرهم رسل عباده دل ذلك على امتيازهم عن سائر الخلق، وأن لهم مع الله تعالى مناسبة تامة وزلفى تقتضي كرامة لا كرامة فوقها، كما أن الملك إذا أرسل لدعوة قوم أحد جنده ولآخرين ابنه علموا أنه مريد لتقريبهم وأنهم آمنون من كل سوء يطرق غيرهم، ووجه الرد أنكم لا فرق بينكم وبين غيركم عند الله تعالى، فإنه لو كان كما زعمتم لما عذبكم وجعل المسخ فيكم، وكذا على كونه بمعنى المقربين المراد قرب خاص فيطابقه الرد ويتعانق الجوابان فافهمه انتهى، والجواب عن المناقشة التي فعلها البعض يعلم مما أشرنا إليه سابقاً فلا تغفل. {وَلله مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} من تتمة الرد أي كل ذلك له تعالى لا ينتمي إليه سبحانه شيء منه إلا بالمملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيه كيف يشاء إيجاداً وإعداماً، إحياءاً وإماتة، إثابة وتعذيباً فأنى لهؤلاء ادّعاء ما زعموا؟! وربما يقال: إن هذا مع ما تقدم ردّ لكونهم أبناء الله تعالى بمعنى أشياع بنيه، فنفى أولاً كونهم أشياعاً وثانياً وجود بنين له عز شأنه {وَإلَيْه المصير} أي الرجوع في الآخرة لا إلى غيره استقلالاً أو اشتراكاً فيجازي كلاً من المحسن والمسيء بما يستدعيه عمله من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)} {يَاأَهْلَ الكتاب} تكرير للخطاب بطريق الإلتفات ولطف في الدعوة، وقيل: الخطاب هنا لليهود خاصة {قَدْ جَاءَكُم رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ} على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة الشرائع والأحكام النافعة معاداً ومعاشاً المقرونة بالوعد والوعيد، وحذف هذا المفعول اعتماداً على الظهور إذ من المعلوم أن ما يبينه الرسول هو الشرائع والأحكام، ويجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم أي يفعل البيان ويبذله لكم في كل ما تحتاجون فيه من أمور الدين، وأما إبقاؤه متعدياً مع تقدير المفعول {كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب} كما قيل، فقد قيل فيه: مع كونه تكريراً من غير فائدة يرده قوله سبحانه: {عَلَى فَتْرَة مِّنَ الرسل} فإن فتور الإرسال وانقطاع الوحي إنما يحوج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه، و{على فترة} متعلق بجاءكم على الظرفية كما في قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} [البقرة: 102] أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع الوحي ومزيد الاحتياج إلى البيان. وجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من ضمير {يبين} أو من ضمير {لكم} أي يبين لكم حال كونه على فترة، أو حال كونكم على فترة. و{من الرسل} صفة {فترة} و{من} ابتدائية، أي فترة كائنة من الرسل مبتدأة من جهتهم، والفترة فعلة من فتر عن عمله يفتر فتوراً إذا سكن، والأصل فيها الإنقطاع عما كان عليه من الجد في العمل، وهي عند جميع المفسرين انقطاع ما بين الرسولين. واختلفوا في مدتها بين نبينا صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام، فقال قتادة: كان بينهما عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وستون سنة، وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، وقال ابن جريج: خمسمائة سنة، وقال الضحاك: أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة، وأخرج ابن عساكر عن سلمان رضي الله تعالى عنه أنها ستمائة سنة، وقيل: كان بين نبينا صلى الله عليه وسلم وأخيه عيسى عليه السلام ثلاثة أنبياء هم المشار إليهم بقوله تعالى: {أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث} [ياس: 14]، وقيل: بينهما عليهما الصلاة والسلام أربعة: الثلاثة المشار إليهم، وواحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان عليه السلام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: " ذلك نبي ضيعه قومه " ولا يخفى أن الثلاثة الذين أشارت إليهم الآية رسل عيسى عليه السلام ونسبة إرسالهم إليه تعالى بناءاً على أنه كان بأمره عز وجل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك؛ وأما خالد بن سنان العبسي فقد تردد فيه الراغب في «محاضراته»، وبعضهم لم يثبته، وبعضهم قال: إنه كان قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام لأنه ورد في حديث " لا نبي بيني وبين عيسى " صلى الله تعالى عليهما وسلم، لكن في التواريخ إثباته، وله قصة في «كتب الآثار» مفصلة، وذكر أن بنته أتت النبي صلى الله عليه وسلم وآمنت به، ونقش الشيخ الأكبر قدس سره له فصاً في كتابه «فصوص الحكم»، وصحح الشهاب أنه عليه السلام من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنه قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد ببنته الجائية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن صح الخبر بنته بالواسطة لا البنت الصلبية إذ بقاؤهما إلى ذلك الوقت مع عدم ذكر أحد أنها من المعمرين بعيد جداً، وكان بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ألف وسبعمائة سنة في المشهور، لكن لم يفتر فيها الوحي، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث فيها ألف نبي من بني إسرائيل سوى من بعث من غيرهم. {أَن تَقُولُواْ} تعليل لمجىء الرسول بالبيان أي كراهة أن تقولوا كما قدره البصريون أو لئلا تقولوا كما يقدر الكوفيون معتذرين من تفريطكم في أحكام الدين يوم القيامة {مَا جَاءَنَا من بَشير وَلاَ نذير} وقد انطمست آثار الشريعة السابقة وانقطعت أخبارها، وزيادة {من} في الفاعل للمبالغة في نفي المجىء، وتنكير بشير ونذير على ما قال شيخ الإسلام: للتقليل؛ وتعقيب {قد جاءكم} الخ بهذا يقتضي أن المقدر، أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا كيفما كانت بل مشفوعة بذكر الوعد والوعيد، والفاء في قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُم بَشيرٌ وَنَذيرٌ} تفصح عن محذوف ما بعدها علة له، والتقدير هنا لا تعتذروا فقد جاءكم وتسمى الفاء الفصيحة، وتختلف عبارة المقدر قبلها، فتارة يكون أمراً أو نهياً، وتارة يكون شرطاً كما في قوله تعالى: {فهذا يوم البعث} [الروم: 56]، وقول الشاعر: فقد جئنا خراساناً *** وتارة معطوفاً عليه كما في قوله تعالى: {فانفجرت} [البقرة: 60] وقد يصار إلى تقدير القول كما في الفرقان (19) في قوله تعالى: {فقد كذبوكم}، وإن شئت قدرت هنا أيضاً فقلنا: لا تعتذروا فقد الخ، وقد صرح بعض علماء العربية أن حقيقة هذه الفاء أنها تتعلق بشرط محذوف، ولا ينافي ذلك إضمار القول لأنه إذا ظهر المحذوف لم يكن بدّ من إضمار ليرتبط بالسابق فيقال: في البيت مثلاً، وقلنا، أو فقلنا: إن صح ما ذكرتم فقد جئنا خراساناً، وكذلك ما نحن فيه فقلنا: لا تعتذروا فقد جاءكم، ثم إنه في المعنى جواب شرط مقدر سواء صرح بتقديره أم لا لأن الكلام إذا اشتمل على مترتبين أحدهما على الآخر ترتب العلية كان في معنى الشرط والجزاء، فلا تنافي بين التقادير. والتقادير المختلفة، ولو سلم التنافي فهما وجهان ذكروا أحدهما في موضع والآخر في آخر كما حققه في «الكشف» وقد مرت الإشارة من بعيد إلى أمر هذه الفاء فتذكر، وتنوين بشير وونذير) للتفخيم {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ} فيقدر على إرسال الرسل تترى، وعلى الإرسال بعد الفترة.
|